رسول بلاوی

يكاد تاريخ الشعر العربي يخلو من لفظة (الفلّاح)، إذ لم ترد هذه اللفظة إلا نادراً في إشارات ليست بذات أهمية؛ وكذلك ينطبق الحال على كتب التاريخ التي لم تعتنِ بالفلّاح ولا مکانته، ولم توجّه إلتفاتة إلى هذا الانسان الكادح إلا في ومضات ضئيلة. وقد ظلّ الفلّاح محروماً من الاهتمام والإلتفات إليه حتى في كتب التاريخ الحديثة. كانت مهنة الفلاحة في الجاهلية تُعدّ مهنة محتقرة فقد كانوا يرون هذا العمل شائناً لايليق بكرامة العربي الذي يجب أن يكون ذا همّة للقتال والسفر فالمجد يأتي من بريق السيوف والرماح لا من حصاد المناجل. اهمل المؤرخون شأن الفلّاح ولم يعدّوه ضمن طبقات أهل البلاد فعدّوا أصحاب السيوف وأرباب الأقلام والعلماء والكتاب وكتاب الأموال والصيرفيين والأطباء والخدام (الشمري، صحيفة الهدی الالکترونيّة).
    لقد مرّ الفلّاح بعدة صراعاتٍ، أبرزها خلال الفترات الإقطاعيّة. عانى الفلّاح وعلى مدى عصور طويلة من الظلم والاستغلال فقاعدة الحكام في معاملة الفلّاحين هي القهر والارهاق وسيرة الاقطاعي فيهم بالظلم والاستغلال، فجاءت حركة تصوير بؤس الفلّاح في الشعر الحديث لتثير الأحاسيس وتهز الضمائر وتعبّر عن هذه الشخصيّة المغصوبة المضطهدة.
    يتّصف الفلاح بالطيبة؛ لأنّه يتعامل بشكلٍ مباشرٍ مع الأرض والتي يعطيها فتعطيه، فتجده كريماً مثلها ودافئاً ومريحاً، كما أثبتت العديد من الدراسات أنّ قضاء الوقت الطويل في الحقل أو الأرض أو فوق التراب من شأنه أن يسحب الطاقة السلبيّة الناجمة عن ضغوط الحياة ومشاكلها، فيرتاح الإنسان ويهدأ باله وتتجدّد طاقته الإيجابيّة (أبوالحسن، 2015م: موقع موضوع). 
       تعود رمزيّة الفلّاح ودلالاتها الانزياحيّة في الشعر، لتعاملها مع الأرض التي تعني للشاعر الوطن والهويّة والکرامة. وقد وظّف الشعراء الشعبيون هذه المفردة في قصائدهم بعدما شحنوها زخماً دلاليّاً مکثّفاً. يقول الشاعر رمضان العگيلي:
ﻣﻦ اﺗﻀﻴﺞ ﭼﻨﺖ اﻟﺒﺲ ﺧﻠﮓ ﻓﻼﺡ  
ﻭاﺷﺘﻠﻚ ﻋﻤﺮ ﻭاﺗﺮﺱ ﻋﻂﺮ ﺳﻠﺘﻪ (رمضان العگيلي) 
فقد رمز الشعر بـ "خلگ فلّاح" للحيويّة والنشاط. فالفلّاح ارتبط اسمه بالنّشاط والفجر، فهو الذي يصحو مبكّراً حاملاً حاجته من الطعام، ثمّ يصل حقله ويزيل الأشواك والأغصان الميّتة، ويتخلّص بالمبيدات من الحشرات التي تفتك بمحاصيله، أو تلحق العطب بها؛ فهکذا يداري الحقل فترة من الزمن ويصطبر رغم احتياجاته وظروفه حتی يثمر، فهذه الأمور تتطلّب إلی ما عبّر عنه الشاعر بـ "خلگ فلّاح". 
من چان المطر ما چنّه نلبس زین!
عن اهدومنه ایسألون؟...
ونگلهم ابریسم ما نلبسه ابطین!
عیب انگول ما عدنه و نشوه صورة الفلاح... (لفته الحموداوي)
هنا الفلّاح يرمز للفقر المغلّف بالکرامة والکبرياء، فالشاعر لا يعترف بالعوز أمام الآخرين کي لا يشوّه صورة الفلاح/ أبيه؛ فيبرّر حالات العوز بکل شموخ وعزّة وکبرياء: (ونگلهم ابریسم ما نلبسه ابطین!). تقول الشاعرة الأهوازيّة الماجدة زهراء بن يباره: 
یمته جای 
كسّروا فیّ السنابل
و وشّروهن بالحقد كل المناجل
سدّوا ابواب الحدیقه وامروا 
العصفور لازم ینحبس
وشنقوا الفلاح بحچایة همس
وشتلوا الخرنوب بعیون الورد
و الورد مذبوح بچفوف البرد
والربیع اختنگ ماجر النفس (زهراء بن يباره)
فالفلّاح في هذا النصّ يمثّل المواطن الشريف والنزيه والأعزل الذي طالما يتعرّض للظلم والاضطهاد فقد وجدوه لاحول له ولا قوّة.
 
حبنه ورده و گلی یا ورده التعیش
لو رأت فلاح یم فیها انكتل (قاسم ابو میلاد النیسي)
وفي هذا الشاهد أيضاً نجد صورة الفلّاح مقرونة بالموت والقتل. وهذه الصور التي رسمها الشعراء للفلّاح تدلّ علی مدی تعرّضه للظلم والاضطهاد رغم براءته.
والشاعر باسم شموسي في رثاءه للشيخ ابراهيم الديراوي يقول: 
حی تبقی ولو فكت حلگهه الگاع
صارتلك ییونس حوت
بشعرك خلفت بلدیره الف فلاح
معقوله الیخلف ایموت؟؟؟؟ (باسم شموسي)
خلّف الشاعر في المدينة بشعره وجهده (الف فلاح). والفلّاح هنا يرمز للمناضل الشريف الذي يسير علی نهج الشيخ في تربيّة الأجيال وتثقيفهم. فکما أنّ الفلّاح يحرث الأرض ويرعی الحقل، فهولاء المناضلون أيضاً يعتنون بالشعب وتنويرهم بعد رحيل الشيخ. وفي هذا المقبوس يلحّ الشاعر علی خلود الشيخ حيث بدأ النص بـ (حي تبقی) وختمه بـ (معقوله اليخلف ايموت"؛ وذلک لأنّ مدرسته الشعريّة لازالت مستمرّة بعطاءها الأدبي الثر. يقال بالدارجة "الخلّف ولد ما مات" فکيف بالذي خلّف ألف فلّاح کلّهم أصحاب رسالة وعقيدة. 
ومن خلال رصدنا لمفردة "الفلّاح" في هذه القصائد، وجدنا استخدامها بصيغة الجمع أيّ "الفلح". جاءت هذه المفردة بصيغة الجمع في قصيدة الغرابي: 
عوف سالوفة جرح رشوه ملح. ..
وعوف طاری الحرب سولفلی ابصلح. ..
ولاتسولف عل عجاف اتضیگ اخلاگ الفلح.. (سید ابراهیم الغرابي)
وقد جاءت في قصيدة الشاعر الحويزي: 
الهسه بچفوف الفلح ویه السنابل ولنخیل ابهورنه اتحشم هویتك
بعده ذاكالأمل بینه أطل شمسنه اتغازل اطیور النوارس منصباحك حد مسیتك (حسن النيسي الحويزي) 
مفردة "الفلح" مع مفردات تراثيّة أخری کالسنابل والنخيل والهور، تشکّل رمزاً للهويّة والالتصاق بالأرض، وقد استخدمها الشاعر بصيغة الجمع ليدلّ علی أنّ الانتماء لازال موجوداً عند کافّة أبناء الشعب.

